رسالة ترحيب

مرحبا بكم في مدونتي الخاصة، شكرا لكم على الزيارة.

الجمعة، سبتمبر 26، 2014

عودة الروح 3 الطريق نحو " عين مخيارة" بنواحي تطوان


في عشية ذلك اليوم بينما أنا أستعد للذهاب إلى البحر مخلصا عزلتي سمعت مناداة من أحد أقربائي يدعوني فيها إلى الذهاب معه صوب نواحي مدينة تطوان، وبالضبط صوب إحدى العيون التي لا ينضب ماؤها. أعجبت بالفكرة رغبة في تغيير الأجواء بعد أن مللت الذهاب للبحر، ومنه للمكان خاص جدا أرقب فيه الناس وهي تتملى بطلعات من تعتبرها نجوما تطربها أغان وتقضي معها ليال ساخبة.
ونحن في الطريق المعلوم وجدنا أنفسنا أمام زحمة المرور، حيث قيل والله أعلم إن ملك البلاد سيمر من هنا، وبعد طول معاناة تمكنا أخيرا من اختيار طريق آخر غير ذلك الذي يعج بالشرطة والمخبرين على ما يبدو كإجراء روتيني.
هالني الأمر، إذ كلما طال بنا المسير على متن السيارة كلما أصبحت المسالك وعرة وكأننا في طلوع عمودي نحو السماء. تحول الانبساط شيئما إلى علو ووجدنا أنفسنا بين جبال تشع اخضرارا، تعيش في صمت وهدوء. تقف أشجارها في شموخ وعزة وإباء رغم ما تعانيه من عدم اكثرات الزائرين بها وتفضيلهم أجواء البحر وأمواجه المتلاطمة عليها.
هنا في هذا تعري الطبيعة عن مفاتنها، متحدية الحيف الذي يطالها، وكأنها تريد أن تقول أنا هنا، أنا الأصل أنا مدينة تطوان الحقيقية ، وليست تلك التي صنعتموها أنتم.
المكان جميل حقا، جمالا روحيا ومعنويا، طبيعيا لا تصنع فيه كما في التحت هناك قرب الكورنيش. انتابني خوف ممزوج بانبهار كبير بعد أن وجدت نفسي بين جبلين عظيمين، يخبئ الأول منجما كبيرا للإسمنت (لافارج) قيل والله أعلم إنه يلوث دشر اولاد عمران بعيد عن المدينة وآخر يضم بين فججه مروحيات هوائية كبيرة أعطت رونقا خاصا.
كدنا أن نهلك في حادث مع إحدى السيارات، والتي لم يكن مالكها سوى " نايب الدوار" الذي يعمل هو الآخر على تهريب السلع مثله مثل الكثيرين هنا بجماعة "الصدينة" العالم المصغر الذي يخفي الكثير هنا والكثير بعزلته وطبيعة عيش سكانه بالمقارنة مع ما يجري تحت في العالم السفلي. نزل " النايب " من على سيارته، رحب بنا بطرقته الخاصة، ثم عاد معنا ليرينا تلك العين التي لا ينضب ماؤها، والتي بدأت تنسج عن الأساطير.
على مشارف وصولنا صادفنا العديد من المناظر والأماكن، بل منازل بعينها بنيت فوق حجر يبدو أنه مهدد في أي لحظة بالتفتت والسقوط. يدرك الناس هنا أنهم يعيشون هدوءا وعزلة غريبين وقل نظيرهما، لذلك ما إن يقترب منهم غرباء عن المنطقة حتى يدركوا أنهم دخلاء من الوهلة الأولى، فيهرعون إليك، وينتظرون أسئلتك ليجيبوا عنها بكل بساطة وتلقائية لا توجد في ذلك العالم السفلي لتطوان والمضيق والفنيدق، حيث أناسها هناك لا يعيرون للدخيل كما يسمونه أي اهتمام يذكر.
مباشرة بعد الوصول تجمع حولنا الأطفال ذكورا وإناثا يسلمون علينا ويرحبون بنا ببراءة، تبدو عليهم ملامح البساطة وربما الفقر، وتبدو عليهم عزلة نفسية بقدر عزلة المكان. فهمت فيما بعد أن سبب تجمعهم وتسابقهم حولنا كان غرضه تبيان أنهم في خدمتنا ليسعدونا على أن نسقي من العين التي لا ينضب ماؤها.
قصدنا العين وبدأنا نملأ القارورات و" البيدوات" بالماء، غير أنه بمجرد ما وطئت قدماي الماء الذي يجري من تحت العين حتى انتابتني برودة غريبة لم تسمح لي بالاستمرار واضطرتني إلى سحبها، ليتدخل الصغار في تحد لذلك وإبراز أنهم أصبحوا يعيشون في المكان ومعه، يؤثرون فيه ويؤثر فيهم، لايهبونه ولا يهبونهم.
سألت أحد الصغار، الذي هو محمد فقلت له:
اشني سميت هاد العين السي محمد ؟ فأجاب " عين مخيارة"
واش تايجيلها بزاف البشر؟
قال بزاف، وعلاش حينت هي مزيونة.
فسألته: شكون اللي قال هاليكم؟
أجاب: الطبيب اللي جا الهنايا بلكنته الشمالية.
قلت له:
فين احنا السي محمد؟
فسبقه في ذلك الصغير "عمر "ليقول : "العلاوية" دوار 360، علت وجوهنا ضحكة عفوية ، ثم تدخل محمد ليصحح:
فدوار" العلاوايين"
بالموازاة مع ذلك، كان الصغار عمر ووئام وآية يملؤون قوارير الماء ويتراشقون بالمياه الباردة في زهو ونشاط وتعبير ضمني عن الذات الطفولية.
اخترنا أن نشرب القليل من الماء، ونتجاذب أطراف الحديث مع بعض من أهل الدوار الذين حجوا للمكان، وبالأخص " نايب الدوار" الذي يملك " سبسي طويل" رمز الشهامة والرجولة والمسؤولية بعد شاربه الكث".
حملنا الماء إلى داخل السيارة، ومنحنا الصغار حصتهم من المجهود الذي قاموا به، ثم عدنا أدرجنا بعد أن انبلج الليل وأرخى سدوله على المكان.
كل الصعوبات هانت من أجل "عين مخيارة" التي لا ينضب ماؤها، ومن أجل أناسها الطيبن الذين يعيشون في عالم آخر غير المكان السغلي الذي فيه رغد العيش وأناقة مصطنعة. أما الفوق فالجمال طبيعي لا تصنع فيه، رغم التناقض الصارخ فيه نتيجة وجود منجم كبير للإسمنت من شأنه تشغيل الكثيرين فيه، ووجود مروحات هوائية قيل إن لها منافع كثيرة.
26-09-2014
الفقير جمال